كتاب غاية في الجمال والتنسيق ومحاولة لفهم أصل سؤال المعنى الحادث والمؤرّق للإنسان المعاصر، الكتاب في غالبه ليس إلا نقولات من فلاسفة ومفكري الغرب والمستشهد به من أفكار إسلامية – لو استثنينا الفصل الأخير – يعدّون على الأصابع. أحسن الكاتب ترتيب الأفكار وفق سياقها الزمني وملاحظة تطوّرها وحصرها في إطار يمكن تأمّله بعناية والخروج بفائدة عظيمة. يقع الكتاب في مدخل نظري و ٩ فصول وهنا تلخيص لأهم الأفكار ومحاولة لرسم مزاج كل فصل.
– المدخل النظري: هنا حاول الكاتب التقعيد لسؤال المعنى وعلاقته بالعلمنة والفردانية وعزا باختصار أن سبب السؤال يكمن في محدودية حياة الإنسان والمعاناة البشرية جنباً إلى العوارض النفسية كالألم والموت والملل وختمه ببعض الإجابات المعاصرة في الأدب وعلم النفس والفلسفة التي تفتقر إلى ما يسد جوعة الروح.
– الفصل الأول : الأنا في العقود الأخيرة:
دخل الإنسان المعاصر في دوامة الحداثة بتعبير المؤلّف من أوسع أبوابها والتيه الفكري والمشاعري الذي يعصف به إزاء تنحيته لكل ما هو ثابت والبحث عن إنتماء في المتحول. وهذا بدوره نتيجة لتدمير الحداثة الإبداعي المزمن للعلاقات والذوات والهويات دون إحلال بدائل لها. أدى هذا إلى “خواء ” شديد في نفس الإنسان المعاصر بتعبير المعالجين النفسيين الوجوديين. انتقل الحديث بعدها عن أزمة المراهقة وكيف أنها أمر جديد تماما وهي نتيجة غير مباشرة لنظام التعليم الحديث والفردانية وحوت هذي الجزئية توصيف وتشخيص لهذي الظاهرة. تلا ذلك حديث تحقيق الذات والخروج عن العادية ومساهمة هذا النمط من التفكير في ازدياد الحط من قدر النفس وذم العادية والرغبة الجامحة في الخروج عن المألوف. وأخيراً، نوقش مآل الأفكار السابقة وهو أن يتبرّم المرء من ذاته. هذا القدر من المسؤولية الغير منطقية يؤدي إلى الهرب من الواقع بالإدمان أو الإصابة بالإكتئاب.
– الفصل الثاني: الذات الحديثة: الجذور والآثار:
كان الفصل الأول طرحاً للأسئلة ومحاولة للتمحيص عن مصدرها بينما سيكون هذا الفصل محاولة لتقريب ملامح الإجابة على هذي الأسئلة. ناقش المؤلّف أصل الذات والهوية عند المتقدمين في الفكر الغربي وبالذات عن ديكارت وأوغسطين. بدايةً، طرح المؤلّف أساس الحداثة وجعله في ثلاثة مفاهيم: العقلانية والفردانية والحرية. ثم عرض مفهوم الأنا عند أوغسطين من زاوية دينية وبعدها ديكارت من زاوية فلسفية، وعرض آثار البنية القانونية والسياسية الحديثة وأثرها في ترسيخ النزعة الذاتية الفردانية عند الإنسان المعاصر واستشهد بنظريات العقد الاجتماعي عند مجموعة من الفلاسفة منهم جون لوك. ثم أوضح موقف العواطف في الفلسفات الحديثة وانعكاسها على الموقف الأخلاقي واستعرض آراءً تناقض آراء هيوم ولايبتنز المغالية في تحكيم العقل. ناقش بعدها الحركة الرومانتيكية والبحث عن الذات والأصالة كمطلب أساسي للفرد المعاصر وكيف أن معنى الحياة يكمن في ذات الإنسان نفسه التي عليه إيجادها وتطوّر مفهوم الاعتماد على الذات نتيجة لذلك، وعرّج بعدها على تجليات الفلسفة المذكورة أعلاه في الأدب والروايات وكتب الاعترافات والسير. في ذات السياق، أشار الكاتب إلى أن شبكات التواصل سهّلت خلق ذاتٍ مستقلة وأثرت على تصوّر الإنسان المعاصر لنفسه، ثم تحدّث عن أن الاندفاع ومحاولة الاختلاف هذي هي نتيجة لعملية التكوين النفسي لفردانية الذات.
– الفصل الثالث: مآزق الأصالة:
في هذا الفصل، يناقش الكاتب الفردنة النظرية ودعاوها وشيء من حججها حول بناء الذات وهيكلة الهوية الشخصية للفرد وعلاقته بالمجتمع وما قادت إليه هذي التصوّارت من أوهام حول “الأنا” إضافةً إلى عواقب حرية الاختيار على تشكيل الهوية وتقدير قيمتها. ثمّ تحدّث عن أنه لا يمكن للفرد أن يلغي ارتباطه بالمجتمع نتيجة لاشتراك اللغة وعدة عوامل أخرى. تلا ذلك الحديث عن الهوية السردية وهي أن ماهية “الأنا” هي ما يعدّه الآخرون موجوداً في سياق انخراط الفرد في حكاية تبدأ من مولده إلى وفاته وأردفه بعرض الحاجة إلى الإعتراف كنتيجة لهذي السردانية الفردية وضرورة الشعور بوجوده الخاص بدءاً من دخوله المجتمع الإنساني وقد عززت الفردانية وعلمنة المجتمع من علانية هذا الشعور الذي يؤدي الحرمان منه إلى إنكار الكرامة كما عززت من تناوله بدلا من كونه مشكلة مجتمعية إلى كونه مشكلة نفسية فردية علاجها ينحصر في الفرد لا المجتمع.
– الفصل الرابع: الطريق نحو الجسد:
بعد مناقشة مفاهيم كالأصالة والانتصار للذات في سبيل تعزيز الفردانية، يناقش الكاتب تفشّي النسبوية وذكر أثر أعمال ديكارت واكتشافات ميكانيكا الكم وجعل الفرد معياراً للحقيقة وما أدّى إليه ذلك من مناهضة للعادات والتقاليد ثم العدمية وعلامات تفشّيها في الفنون والأدب واستعرض نصاً على لسان أحد الشخصيات المشهورة من مسلسل ذائع الصيت ذاكراً أصل الأفكار فيه عند بعض فلاسفة الغرب كشوبونهاور وكيركيجارد وختم هذا الفصل باستنتاج هو أن الهدف من هذي السلطات العدمية تفكيك المؤسسات السلطوية المتجسّدة في الوطن والكنيسة والعائلة وانتهى إلى أن مآل هذا هو تفكيك الجسد نفسه مما أدى إلى زيادة الاهتمام ببنية الإنسان الفيسولوجية وجعلها محوراً مركزياً في فهم الفرد الحداثي للهوية الذاتية وتحت هذا يشرح الإفراط في الاهتمام بالحميات الغذائية وجراحات التجميل والمكياج.
– الفصل الخامس: اختلاف المقدّس و(الأديان) البديلة:
يقول الفيلسوف الكبير كيني اكّرمان: كل إنسان عبدٌ لشيء ما !
يحلل الكاتب في هذا الفصل الحاجة الأصيلة لدى الإنسان للبحث عن القداسة. فبدء بعرض السياق التاريخي لابتكار المقدسات وبدائل الأديان مستشهداً بقول مؤرخ الأديان الروماني إلياد أن : “كل شيء يمكن أن يصبح رمزاً للإلهي وأن المقدّس يمكن أن يظهر في أي مساحة من الحياة النفسية، أو الإقتصادية أو الروحية أو الإجتماعية ”
واستعرض بعدها الأديان السياسية من شيوعية واشتراكية وشرح تأليه الدولة الحديثة وقدسية الانتماء الوطني. عرّج بعد ذلك على الروحانيات البديلة وتمحورها حول حرية الاختيار الفردي وتلبية الاحتياجات الذاتية والخروج عن التقاليد الدينية المؤسسية، ثم تحدّث عن التحليل النفسي بوصفه دينا وشيء من الظواهر الحديثة التي تندرج تحت تعريف الدين، منتهياً بالحديث عن الملامح الدينية في بعض الرياضات المعاصرة من تطرّف في التشجيع والانتماء وتقديس السوق والتسويق واللهث خلف تحسين سمعة العلامة والولاء لعلامة تجارية مسجّلة.
– الفصل السادس: المشاعر والرومانسيات المعاصرة:
على غرار الفصل السابق، يستمر الكاتب في محاولة فهم دور أحد مقدسات هذا العصر وهو الحب الرومانسي والعلاقة الحميمية، فيبدأ بتشريح اللذة في البحث عن أحاسيس جديدة تحوم حول “البحث عن الإثارة والمغامرة وسرعة التأثر بالملل ” وكيف أناخت هذه النظرة بكلكلها على الفرد فاصطبغت تجاربه بها وتحوّلت نشاطاته لطقوس وتجربة روحية. ومما يُلحظ كثرة الإشارات والصِبغات الدينية في مجال الترفيه والسياحة والإعلام. أردف ذلك بتبيان لقدر الحب في النموذج الثقافي المهيمن (الذي هو النموذج الغربي) والحمل الثقيل على كاهله لإنقاذ الإنسان من أزمة المعنى التي تحيط به، ثم ناقش زواج الحب وتطور علاقة الزواج وإزاحتها للصداقة كأقرب صلة شخصية ونشأة زواج الحب بعد الحرب العالمية الثانية وتأثّر العلاقات بين الجنسين بثورتيْ الفردانية والنماذج الاقتصادية الرأسمالية لتشكيل الذات وصوغ المشاعر. وأخيراً سرد الأزمات التي تحيط بعلاقات الحب وعلاقتها بصورة الذات والمعنى ومن الأزمات حتمية انطفاء العلاقة المتوقّدة في بدايتها وحيلولتها إلى العادية.
– الفصل السابع: الفن والمعنى المؤجل:
يطرح هذا الفصل غائية الفن وتحويله إلى نموذج ديني في ظل ضمور الاعتقادات التقليدية ونفوذ الرأسمالية مستعرضاً علاقة الفن التاريخية بالدين وإنزال الدين الفن منزلة دنيوية واستخدام المسيحية له كوسيلة “لإعلاء كلمة الرب “، ثم محاولة فهم جوهر الانفعال الفني ومعناه عند فلاسفة الغرب. وبعدها انتقل إلى مناقشة ما أدى إلى استقلال الفن وتجريده من وسليّته كالرومانتيكية، عرّج بعدها على أسباب تقديس الفن ومنها كونه بديلاً للدين وإضفائه شيئاً من المنطقية على تيه الحداثة. وأخيراً تحدّث عن الفن كوسيلة لإسكات سؤال المعنى ومخدّر للآلام والأحزان.
– الفصل الثامن: المعنى والزمان:
يتناول الفرد المعاصر مفهوم الزمن بشكل مختلف تماماً عن أسلافه، و في هذا الفصل محاولة لمناقشة تحولات الوعي به ومفهوم “الحاضرية” والعيش في اللحظة وإلحاح سؤال المعنى على الحضور على الرغم من ذلك. نتيجة عن هذا، نشأ نوع من الخطاب الروحاني للهروب من صيرورة الزمن والتبشير باللحظة الحاضرة والاستمتاع بها، استطرد الكاتب بعد ذلك في الحديث عن مسببات اضطراب الوعي بحركة الزمن وأرجأ ذلك إلى تحولات الحيز المكاني من نشأة المدن الضخمة وسهولة المواصلات وما إلى ذلك من أسباب. ختم هذا الفصل بالحديث عن ضرورة العناية بالسردية الذاتية التي لا بد أن تتضمن فهما للمغزى العام ككل في تسلسل الأحداث وغائيتها واتصال ذلك بالمعنى.
– الفصل التاسع : من المعنى إلى التعبّد:
بعد هذا الصداع الطويل والغرق في فلسفات الغرب ومحاولة فهم السياق الذي قادنا إلى سؤال المعنى ككل، يرسم الكاتب إجابة على هذا السؤال في ظل الرؤية القرآنية واضعاً نصب عينيه عمق الحاجة إلى التدين وأثر الألم والمعنى الذي يقود إليه الموت.
وانتهى بنقد علمنة سؤال المعنى وحقيقة ضيق السؤال ووضوح إجابته في ظل التصوّر الإسلامي. وأخيراً نتذكّر قول الحق تبارك وتعالى: (وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون).
نواف الأصم- الخبر