كتاب : رأسمالية الكوارث

يونيو 8, 2022المدونة

تاريخان مهمان كانت الرأسمالية مدينةً لهما : الأول 1945 عندما انتصرت مابعد الحداثة على شطر الكون عسكرياً و بعده إقتصادياً وسياسياً و اجتماعياً و اصطبغ نصف القرن إلى آخره بصبغة رأسمالية لا يزاحهما إلا الشيوعية التي أهلكت نفسها بنفسها قبل غروب القرن بعقد تقريبا، حتى بقيت الرأسمالية وحيدة تمشي مزهوة بنغسها و تفتخر بمكتسباتها و حولها ما تستطيع جمعه من حواش وحجاب ولا تُري الملأ والأرض إلا ما ترى ، تسن القوانين و التشريعات و الأحكام باسم حقوق الإنسان تارة و بـ “دي فكتو”  تارة ولكن ما تبنته و عملت على ضوءه الرأسمالية كان النفعية المحضة أو البراغماتية بالمصطلح السياسي . 

 وقد  بقيت مهيمنة على الفضاء العمومي العالمي حتى وقعت أحداث 11 سبتمبر، فأشعلت العقول لتدبر ما حدث و كيف صارت الرأسمالية عدواً بعدما كانت ملاذاً وخلاصاً و فردوساً للكون كما سوّقت وكرست, أو كما أرادت لها أن تبدو. 

هناك تاريخ ثالث قد يكون له أثر غير بعيد عن أجواء كتابنا و هي أزمة  2008 التي يعرفها الجميع ، التي لم تبق رأسمال إلا و أذاقته من حلاوة نارها و كوته بثلجها، لكن ما أبقى الرأسمالية راسخة و قائمة تتنفس حتى الآن هو قابليتها و مرونتها المدهشة للتكيف و تعديل المسار، كما أنها ذكية كفاية لأن تنقد نفسها و تخرج من كل أزمة أقوى ناهيك عن النقودات الخارجية التي كانت شرسة متسأذبة من قبل الشيوعيين و لا زالت فلولهم مستمرة بسن الأنياب تجاهها ، لكن ما يعنينا هو حركة النقد الذاتي للرأسمالية كنظام اقتصادي الذي بدأ بأعقاب الحرب الكونية الثانية و لكنه إزداد عمقاً و تشعباً و توسعاً و صراحةً و شراسة بعد 2001 . 

رأسمالية الكوارث لكاتبه الصحفي الأسترالي أنتوني ليونشتاين و الصادر 2015، و ترجمه أحمد عبدالحميد، لصالح سلسلة عالم المعرفة عدد رقم 478 نوفمبر 2019 و يقع في 440 صفحة من القطع الصغير ، يعتبر من الكتب المهمة و المميزة التي تندرج تحت مواضيع النقد المابعد حداثي للرأسمالية من  باب الإقتصاد السياسي و الفلسفة النفعية أيضاً.  

وليس بخافٍ عليكم نقودات الخارج كما أسلفنا التي بدأت من المعسكر الشرقي بل وحتى من مدارس مثل فرانكفورت ذات الأساس الماركسي، و جدير بالذكر هنا مثلا كتاب حدود النمو المالتوسي الهوى الصادر عام 1972 ليورغن راندرز الذي أكد على التأثير المدمر للنمو السكاني و الإقتصادي في عالم محدود المصادر وإمكانية استئثار بعض القوى الكبرى بهذه المصادر و التحكم بها . و راندرز من أشهر كتاب أوروبا المعادين للرأسمالية وتوحشها.  

هذا الكتاب يعتبر هو و كتب مثل ” الأسوأ لم يات بعد ” أو  ” الإنقسام: الظلم الأمريكي في عصر فجوة الثورة” أو “إدفع أي ثمن ” أو” هذا يغير كل شي” أو  حتى الكتاب الذي أستقى منه الكاتب المصطلح الأساسي و عمود الكتاب الفقري و هو “عقيدة الصدمة : صعود رأسمالية الكوارث” , الصادر عام 2007 و الذي صرحت فيه نعومي كلاين بأن وتيرة الخصخصة قد إزدادت بعد هجمات 11 سبتمبر لأن ادارة الرئيس بوش كانت تعتبر الحرب على الإرهاب بمثابة هبة للقطاع الخاص الأمريكي .  

مثل هذه الخلاصات مليئة في ثنايا الكتاب و لست في معرض ذكرها لكني فقط امثل على اسلوب الكاتب الاخاذ في عرض و سرد تحليلاته و نتائج مشاهداته و مقابلاته و عرض لعدد كبير من الكتب و المقالات و الاستشهادات التي تجبرك على البحث و تكرار قراءةهذا السفر  المكون من 7 فصول و مقدمة و خاتمة و من جزأين اساسيين. 

من المقدمة يبدو تماما توجه الكتاب وهو كشف الجانب المظلم من الرأسمالية وما سببته من مآسي و أزمات للكثير من الشعوب تحت مسميات مثل ” تحقيق التنمية و تعزيز الديموقراطية و حقوق الانسان ” أو ” الأعمال الإغاثية و الإنسانية”  و يسرد فيها كثيرا من الملاحظات والوقائع الشيقة التي خلص فيها  إلى أن الكوارث و المصائب أضحت تجارة كبرى للشركات و المقاولين. 

فمثلا ينقل عن من يعريها بقوله ” الرأسمالية مصممة بعناية بحيث يذهب رأس المال للمشروعات الأكثر ربحية فقط, و هذا بالضبط مالا نحتاج إليه اليوم, فنحن بحاجة إلى ضخ استثمارات في مجالات الطاقة و الرياح و الطاقة الشمسية الأكثر كلفة, و ليس في مجالات الفحم و النفط  والغاز الأرخص ثمنا و الأعلى ربحية . والسوق الرأسمالية لم تفعل هذا قطعاً من تلقاء نفسها إلا تحت ضغوط و شروط إطارية معينة و محددة و ذلك من قبيل الأسعار البديلة أو لوائح تنظيمية جديدة” 

سيمر مع من قرأ أو سيقرأ الكتاب مصطلحات جديدة على البعض مثل ” الديكتاتورية المستنيرة” أو الأوليغارشية و الساينتولوجي أو حتى اقتصاديات السوق . و كذلك شخصيات عديدة قابلها الكاتب شخصياً أو نقل عنها من مقال أو كتاب و أيضا إحصائيات قد لا تجدها بهذا الزخم في غيره من الكتب بهذه الحرفية و الشمولية مثل هذه الإحصائية التي تبين كيف نخر السوس في صلب الرأسمالية . 

“عام 2013, وفق وزارة الزراعة الامريكية كان ما يقرب من 14% من سكان البلاد يعجزون عن الوصول إلى الطعام الكافي اللازم لحياة نشطة و صحية لجميع أفراد الأسرة”, و يحاجج الكاتب بأن امريكا إذا كانت أكثر الدول شفافية في الإحصاءات فما الفائدة منها إذا لم تعالج مشاكل 42مليون إنسان تقريبًا. 

الجزء الاول من الكتاب فيه عرض عن ما اجترحته الشركات متعددة الجنسيات من نوائب و مصائب و رزايا في كل من أفغانستان و باكستان و اليونان و بابو غينيا الجديدة و هايتي، و سرد في كل دولة منها ما شاهده بعينه من شر رأس المال و حيونيته. لا أريد أن أسهب في سرد تفاصيل ما مر به و شاهده فهذا حري بالقارئ أن يغوص فيه لكني أستطيع القول أنه وضع يده على شريان الشبكات السرية التي تشكلت لمساعدة الشركات الكبرى على جني الاموال من الأزمات و الكوارث بدءاً من 11 سبتمبر وحتى تاريخ الكتاب. و أيضا كيف يتم إقناع الناس بأن هذا السلوك هو المنجي من ويلات الحرب و براثن الفقر. 

من انتهاكات شركات الأمن الخاصة في باكستان و أفغانستان و الإنقاذ المالي من الإنهيار في اليونان إلى مابعد كارثة الزلزال في هايتي و ليس آخراً استغلال الموارد في ظل فوضى الحكومة في بابوغينيا الجديدة كل هذه النماذج سجلها و قيدها بإثبات و إحصاءات و مقابلات حية أو نقولات مباشرة حين لم يتمكن من الولوج إلى بعض المناطق أحيانا في عرض رائق قد لا يتكرر كثيراً من صحفي متمكن و قدير و الأهم أنه شجاع – أكثر من الرأسمالية – على الأقل -. 

الجزء الثاني يشرح بالتفصيل كيف وصل وحش رأس المال المفترس إلى التهام أولاده وبقية أهل بيته حيث يتحدث عن أمريكا وبريطانيا وأستراليا وكيف أن الخصخصة و زيف فكرتها أعمت العيون عن ما تكتنزه من مصائب و كوارث إنسانية و يكشف الوجه القبيح للنظام الرأسمالي الغربي و يسقط القناع الذي يتخفى وراءه لكي يستمر في ممارسته لاستغلال الشعوب الضعيفة في العالم و الإستفادة من المآسي الإنسانية للاجئين هرباً من  الكوارث الطبيعية و الحروب و الصراعات من أجل التربح الممنهج. 

في هذه الدول الثلاث مثلت صناعة السجون و المعتقلات لطالبي اللجوء السياسي و الهجرة بيئة خصبة و متينة لتضخم رأس المال حتى أصبح أشبه بالرجل الأخضر الذي ينتفخ إذا اشتم رائحة الدولار و اليورو. شركات أمنية متخصصة تجني ملايين من إدارة هذه الأماكن و يهمها جداً زيادة عدد المنضمين بل وبناء مقرات جديدة بحجج مثل المخالفة أو التأهيل أو التأديب، مع غض الطرف عن ما يحدث من قبل الحكومات الديموقراطية . 

هذا الكتاب نتاج لبيئة ما بعد هجمات 11 سبتمبر , فالتوسع الشامل لدولة المراقبة المخصخصة كان محصوراً في مجال الخيال العلمي حتى هذا اليوم المفصلي. و اليوم هناك 4 ملايين أمريكي يحملون تصاريح أمنية سرية للغاية من بينهم نصف مليون مقاول. أيضا يقابل تآكل الديموقراطية بصعوبة بتذمر من قبل المؤسسات السياسية  والإعلامية . عمليات بيع الأصول القيمة و الإستعانة بمصادر خارجية لتوفير خدمات حكومية حيوية تحدث لأنها لا تلقى الكثير من المقاومة  إلا عند الدول التي تتعرض فيه حياة الناس للخطر. 

 يهدف هذا الكتاب إلى إحداث صدمة و استفزاز و إماطة اللثام عن عالم تطور خلسة،  و لكني أصر ايضا على أن البدائل دائماً متى ما أردنا ممكنة.    

عبدالعزيز السماعيل – الخبر